ترجمات وتقارير
لم تجف سكين البرتقال
عبدالرحمن إسماعيل - غزة - منطقة الشعف بالشجاعية شرق مدينة غزة ، أو بما تعني كلمة الشعف باللغة العربية " شدّة الحب " ، ففي منطقة شدة الحب تسكن دانيا علاء عدس (19) عاماً ، وبشدة من الحب كانت تتأهب هي وخطيبها محمد سعد لزفافهما بعد شهرين .
عُقد قرانهما منذ ثلاثة أشهر، على أن يُتمّما تحضيراتهما لبيت الزوجية بوقتٍ كافٍ ، وكانت دانيا ومحمد واعدين بعضهما بأن يوفران سُبُلَ الراحة والحياة الكريمة والسعيدة لبعضهما .
كان خطيبها قد كتب لها على صندوق المهر يوم عقد قرانهما بخطٍ مليءٍ بالشعف "ما كنتُ أؤمن بالعيون وسحرها حتى أذهلتني في الهوى عيناكِ"، أحلام كبيرة اتفقا على تحقيقها سوياً ، منها انجاب الأطفال والاهتمام بهم ، وإكمال تعليمها الجامعي فهي تدرس المحاسبة في الكلية الجامعية وقرر محمد بتشجع إكمال تعليمه معها ، إلا أنّ العدوان على غزة فاجأ محمد ونالَ من دانيا .
يقول محمد سعد، إنهما خططا لكل تجهيزات وترتيبات حفل الزفاف الذي كان من المقرر أن يتم بعد شهرين، ووعدها أن يكون استثنائيًا وأجمل ما تراه في حياتها، مشيرًا إلى أنّه أجرى بعض التجهيزات، وبينما يسير لإتمام ما تبقى منها، جاء العدوان الغاشم وخطف عروسه من الحياة.
دانيا غادرت الحياة بلا عودة مع شقيقتها الأصغر إيمان (17 عامًا) في افتتاحية القصف على غزة ، قبل موعد زفافها الذي كان مقرر أن يتم في 21 تموز/ يوليو القادم ، بعدما قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية في الساعة الثانية والربع فجراً بصواريخ شديدة الانفجار منزلا يعود لعائلة الشهيد خليل البهتيني، وهو ملاصق تماما لمنزل دانيا ، فدمر منزلهم وتراكمت حجارة غرفتهم فوقهم .
لطالما كانت الأحاسيس المتبادلة بين العاشقين في مكانها ، وهذه المرة تمنى " محمد " أن يكون احساسه الموجع ليس بمكانه ، فقد مرّ على قلبه شعور غريب ليلة استشهاد دانيا ف يقول : " كنت في بيت دانيا لزيارتها مساء الاثنين، وشعرت باحساس غريب ، فلم أرغب بمغادرة بيتها وتركها وحدها، وهي بادلتني الشعور بالبقاء، لكنّ كان يجب علي المغادرة لأن الوقت تأخر" .
الثانية والربع فجرًا تبدلت الأرض غير الأرض ، وثقلت الأنفس بما ثقلت ، حين سمع "محمد" بخبر القصف الذي طال أماكن متفرقة من القطاع، من بينها هدف قريب على منزل عائلة خطيبته "دانيا"، حاول الاتصال بها لكن صعدت روحها إلى السماء مُجردة من كل ما كانت تملك وأصبحت خارج التغطية إلى الأبد .
يقول محمد الذي تبدلت حمرة خديه ، بالشحوب ، وذبُلت ملامحه ، وبدأ يحاول بكلِّ جهده أن يكون هادئاً تحت وقع صدمة عمره التي تجرعها بألم وحسرة على فرحة أيامه التي لم تكتمل : " ضحكتها أحلى من الملاك ، شايفها قدامي ، أنا مش مصدق انها مش موجودة ، هي موجودة حالياً وقاعدة معي ، خلص أنا هيك احساسي بيحكيلي ولسا بحكي معها " .
"طعمتني بايدها "
وقعت تلك الكلمات على محمد كالصاعقة ، مزقت قلبه أشلاءً متناثرة ، لم يُصدق المسكين ، ولم يشأ : أوهمت نفسي بعدم التصديق ، لا اريد أن أسمع ، لا زلت مذهول ، لحظة الخبر لم أقوى على القيام بشيء ، ولا أريد أن أتأكد من الخبر صحيح أم لا.
في هذه الأثناء كانت الصينية الموضوع بداخلها حبات البرتقال المتبقية والقشور الزائدة التي انتهى من تناولها محمد ودانيا موجودة في المطبخ ، لم يجف ماء البرتقال وآثار قشورها عن الصينية والسكين التي استخدموها بعد .
ممسكاً محمد بقشور البرتقال والسكين التي قطّعت بها دانيا حبات البرتقال لخطيبها ، والدموع تطرق أبواب عينيه محاولاً منعها يقول : " طعمتني بايدها ، كان أزكى برتقال آكله من ايديها ، قشرتهم الي بايديها الناعمات ، لسا قشور البرتقال ما نشفت ".
"بابا دانيا وينك.. إيمان؟ بابا ردوا عليّ"
شعرتُ وكأنّ البيت أصبح قبراً ، لم يسعف نفسه إلا بالمناداة على ابنتيه حينما وقعت الواقعة ، علاء عدس (54) والد الشهيدتين "دانيا" و"إيمان" لم يقدر وجهه على الصمت دون تعليق مشاعر الصدمة والفقد والحسرة بين عينيه ومبسمه المُسن ، جراء الواقعة التي لم يستوعب تفاصيلها بعد،على غير عادتهنّ هذه المرة ، لا يضحكان ولا يتسامران الحديث والضحكات كزهرات متجانسة في الأُنس ، الصمتُ المؤلم ينتشر في البيت، يذهب إلى غرفتهما ليطمئن فلم يجد في مناداته وبحثه الا جثتين بريئتين مضرجتان بالدم!
ويُتابع الأب المُثقل: "الغرفةُ ركامٌ على عقب، وسادة دانيا مضرجة بالدم مُعلنة استشهاد دانيا ، بينما إيمان كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، حاولت الطواقم الطبية إنقاذها لكنّها قررت أن تصطحب دانيا ليتناولا أطراف الحديث سوياً حتى بالموت ".
لطالما تحدثت"دانيا" ووالدها عن تفاصيل زفافها ، يقول الأب : " كانت دانيا تأتي تطلب مني أن أنصحها وعندما تشعر بالضيق تقوم باحتضاني ، بناتي الثلاث الأكبر قمت بتزويجهنّ ، وكنّا نتجهز لزفاف دانيا الرابعة ، لكن لم تُتوج هذه الفرحة ولم تكتمل لكن قدرها بالموت قد صَدَر " .
أما "إيمان" " فتمتلك شخصية رقيقة واحساس رقيق " كما وصفها والدها، فهي تمتلك موهبة بالرسم والنقش على الخشب وإعادة تدوير الأشياء لتتحدث بلغة الفن والأدب، كانت تحلم بأن تُصبح فنانة يُضرب بفنها المثل.
بعد أيام من وقعة الواقعة وجد الأب طوقًا من "الورد والخيش" صنعته وشكَّلته "إيمان" بيدها الرقيقة وهو ما وُجِد سليماً من مشغولاتها تحت الركام.
وكانت "إيمان" قد أتمت منذ زمنٍ قريب حفظ الجزء الـخامس عشر من القرآن الكريم، وكما في كل مرة تحفظ فيها ايمان جزءاً من القرآن يكافئها والدها شيئاً ، هذه المرة كانت المكافئة هاتفًا جديداً لأنها "تستحق كل ما هو جميل" كما قال والدها.
كُنا سعداء ..
محمد سعد بتنهيدة تلو الأخرى تدفعه للحديث عن دانيا والتغني بها ، الذي كرر كثيراً وصف ضحكة خطيبته بأنها "تسوى الدنيا" وأخلاقها بأنها "لا مثيل لها" ظهر أثناء تشييع جنازتها وهو يبكي بحرقة أمام جثمانها الملفوف بالكفن الأبيض المسجّى في الجامع العمري الكبير وسط مدينة غزة، ويقرأ لها سورة "يس" ، وكان يتساءل بألم ماذا عن كل ترتيباتنا للعرس وجميع أفراد عائلتي الذين تجهزوا ليشتروا الملابس الجديدة ، وحتى المكان الذي اتفقنا عليه لنقيم حفل زفافنا ؟ وماذا عن لحظاتنا ، وعودنا ، ابتسامتنا ؟ ماذا عن التفاصيل الدقيقة بيننا ؟ ، هل ذهب كل شيء ؟
باقة ورد
رحلت دانيا دون رجعة ، وألغى محمد حجز فستان الزفاف والحُلي ، وألغى العُرس والفرح الذي كان من المفترض أن يُقام في شاليه على البحر كما تمنت دانيا وقُصفت المخططات والأحلام وتحول المشهد من فرح إلى بيت عزاء. وتذكر محمد وهو يحاول تجميع طاقته أنه أهداها باقة ورد طبيعي قبل ايام من رحيلها ، ظلت على حالها فترة طويلة ، ولما جفّت وذبلت ، أخذ بعض بذورها ، وزرعها في بلكونة البيت لتُنبت من جديد ، وليبقى عبير ذكريات دانيا كطيفٍ يحلق حوله .