مقالات
نـحـو قـيـم داخـلـيـة
الكاتب: عاطف أبو سيف
استكمالاً للنقاش حول انتخابات مجالس الطلاب في الجامعات ومع ما يصاحبها من تراجع في القيم والأخلاق والعلاقات السياسية فإن ثمة حاجة لتطوير منظومة أكثر شمولاً حول الخلاف السياسي والاختلاف الفصائلي والعلاقات البينية بين مكونات العمل الوطني.
إن ما يحدث في الجامعات لا يشبهه شيء ربما إلا لحظات الانقلاب الأسود التي حملت سفينة السياسة الفلسطينية على أمواج ما زالت مضطربة وغير مستقرة حتى اللحظة، بيد أن هذا السوء يحدث في أكثر الأماكن مدعاة للحوار والتفاهم وتشجيعاً للنقاش الداخلي. إن الحاجة لتطوير مثل هذه المنظومة قد يكون مقدمة لإنتاج حوار أكثر عمقاً حول العلاقات الداخلية ويشجع على المزيد من العمل على دفع الانتخابات النقابية وجميع الانتخابات الأقل من المستوى الوطني إلى الأمام.
إن أساس العقد الاجتماعي في أي مجتمع هو وجود مثل هذه التفاهمات بين مكونات المجتمع من أجل تنظيم العلاقات بين أفراده وبين الأفراد والدولة.
وإن سعي الأفراد أو اتفاقهم على ضرورة السعي المشترك نحو الصالح العام هو وحده من ينتج هذا الصالح العام.
وليس من المؤكد أن ثمة طريقاً أخرى نعرفها يمكن أن تقود إلى الصالح العام وتحقق المصلحة المشتركة للجميع بعيدة عن هذا التعاقد الطوعي بين الأفراد أو بين المجموعات المختلفة تحت مظلة الجماعة الكبرى أي المجتمع.
فقط من خلال ذلك يمكن أن يكون ثمة مصلحة يشعر الجميع بأنها مصلحته ومصلحته الأهم.
أزمتنا في السياق الفلسطيني تكمن في تغليب المصالح الحزبية على المصلحة العامة. يمكن لك أن تسمع الخطب الرنانة حول الوطنية وحول المصلحة الوطنية لكنك تسمع جعجعة ولا ترى طحناً.
وكما قال إبراهيم طوقان «وطن يباع ويشترى» إلى آخر البيت. فالمصلحة الحزبية أهم بكثير من مصلحة البلاد.
في الحقيقة لا يمكن أن يكون الصالح العام مرغوباً في كل ما يحدث. وكما قال غسان كنفاني فإن الوطن ألا يحدث كل ذلك.
وطالما كان يحدث فثمة وطن غائب وثمة وطنية منتهكة حرمتها وثمة مصلحة لا يسعى خلفها أحد.
في العمق من ذلك ثمة ضحية لا يريد أحد أن ينصفها، إنها الضحية التي يعلق كل حزب في رقبته تميمتها ويقدسها: أي فلسطين.
تغليب الصراعات الثانوية على الصراعات الأساسية هو آفة خلافاتنا الحزبية. فلو تم تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية لم يحدث الانقلاب؟، ولو تم تغليب الصراع الأساس مع الاحتلال على كل صراعاتنا الداخلية لما استمر هذا الانقسام الناجم عن الانقلاب كل هذه المدة من الزمن، ولو أدركنا حجم ما نعانيه جراء كل هذه الويلات لما عانينا أكثر.
الصراع مع الاحتلال يتم توظيفه للأسف من قبل البعض من أجل تأجيج الصراع الداخلي ومن أجل تسجيل نقاط أكثر في هذا الصراع ولو كان هذا يتطلب كذباً وتزويراً وتسطيحاً للأشياء.
أليس هذا ما يحدث وحدث في انتخابات الجامعات. يكفي مراقبة هذه المناظرات الطلابية السطحية حتى يرى المرء منا دماء الوطن وكرامته مراقة من أجل أن يصفق أتباع الكتلة الفلانية لمناظرهم ويهللوا لخطيبهم.
ولا بأس من تشوية الحقائق وتزوير الوقائع ولا بأس من تسفيه الذائقة الفنية عبر توظيف العروض المسرحية للاستخفاف بالعقول لعل كل ذلك يقودنا إلى المزيد من النقاط وبالتالي المزيد من الأصوات.
ثمة من يجب محاكمته لأنه استخف بالذوق العام وثمة من يجب محاكمته أخلاقياً لأنه أساء للأخلاق. أما الشأن الوطني العام فهو متروك للمزيد من البحث في سبل الخروج من الأزمة لا الهرولة نحو القاع أكثر وأكثر من أجل الفوز بكرسي في مؤتمر مجلس طلاب.
تذكروا أن غياب مثل منظومة الأخلاق تلك هو من قاد إلى التوتر الجهنمي في الساحة الداخلية عشية الانتخابات البلدية العام 2004 ومن ثم الانتخابات العامة العام 2006، وبعد ذلك الانقلاب على المؤسسة الرسمية من أجل المزيد من التملك والهيمنة إذ لم يعد يكفي الفوز عبر صناديق الاقتراع بل يجب حسم الأمر عبر صناديق الرصاص.
حالة مأساوية لا تستحق إعادة التذكير بها إلا من أجل التعلم من أخطاء الماضي لأنها لم تنتهِ بعد.
غياب تلك المنظومة هو ما جعل الصراع الداخلي يتأجج يوماً بعد يوم وهو من قاد للاحتراب وهو من قاد إلى استمرار الانقسام طوال كل هذه السنين، وليس ثمة أي دلالة أنه يمكن أن ينتهي، بل ربما يستمر إلى المزيد من السنوات.
لم يكن أحد حتى في أسوأ كوابيسه يتخيل أن ما حدث قبل ستة عشر عاماً يمكن له أن يستمر لأشهر. بل في أكثر الأحوال سوءا كان يتم الافتراض أن هذا كابوس قد يزول مع الصباح.
ومع ذلك استمر سنة وراء سنة. وكلما حاولنا الاقتراب من نقطة انطلاق جديدة كان ثمة ما يعيدنا للوراء ألف خطوة في تأكيد ثابت أن ما حدث لم يحدث من أجل أن ينتهي، بل من أجل أن يستمر ببساطة لأننا لا نتفاهم على القواعد المؤسسة لعلاقاتنا الداخلية ولمنظومة القيم التي يجب أن نحتكم إليها.
ربما كجزء من الحوار الوطني لإنهاء هذا الانقسام علينا التأسيس لحوار مجتمعي وقيمي وأخلاقي يكون قاعدة لانطلاق أي حوار سياسي حقيقي وأساساً لبناء أي تفاهمات وطنية صلبة يمكن لها أن تستمر وتدوم وتكون مرتكزاً لمستقبل نسعى إليه ونريد لأبنائنا أن يعيشوه بكرامة وإحساس متيقن بالثبات.
وهذا يجب أن يكون فقط لا لأننا نريد أن ننهي الانقسام فقط بل لأننا نريد لنا وللأجيال القادمة أن تعيش حياة سياسية ومجتمعية سليمة ولا تنزلق إلى ما انزلقنا إليه من صراع واحتراب ولأننا نريد أن نؤسس لمجتمع سياسي يكون للفرد فيه قيمة وليس مجرد عنصر. إنه مجتمع المواطنين الذين هم عماده.