#غزة_تُباد
مقالات
"إسراء" تستصرخ ضمائر دعاة حقوق الإنسان
بقلم: عبد الناصر عوني فروانة
"إسراء". الأم والأسيرة، الحنونة والبريئة، المريضة والجريحة، اشتعلت النيران في سيارتها، فالتهمت الحروق جسدها وذاب جلدها واصابعها وتشوه وجهها.
"إسراء". احترقت واحترقنا معها وجعا وألماً، ونيرانها المشتعلة تحرق "الاعلان العالمي لحقوق الإنسان" الذي لم يعد له قيمة أو معنى في ظل استمرار وجود جسدها المحترق داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي.
ففي مثل هذا اليوم العاشر من كانون أول/ ديسمبر عام 1948، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة بقصر شايو في باريس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو بمثابة وثيقة حقوق دولية تعبر عن رأي الأمم المتحدة عن حقوق الإنسان المحمية لدى كل الناس. ليضع هذا الإعلان أسس عالمية جديدة في التعامل مع الإنسان واحترام إنسانيته وكرامته وقدسية الحياة الإنسانية، والاعتراف بالكرامة المتأصلة في جمع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة كأساس للحرية والعدل والسلام في العالم.
ولقد تضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ثلاثين مادة، تكفل للبشرية حياة تتمتع فيها بالكرامة والحرية والأمن والامان، كجوهر لكرامة الإنسان. ومنذ اعلانه قبل أربعين عاما والمؤسسات المعنية بحقوق الإنسان، المحلية والعربية والدولية، تحييه في كافة أرجاء العالم، وتشيد به وتسلط الضوء على مضمونه بطرق وأشكال مختلفة.
هذا حقهم، ومن حقنا عليهم أن نطالبهم بالعمل على احترام حقوق الإنسان الفلسطيني وتحمل مسؤولياتهم الأخلاقية والإنسانية تجاه ما تقترفه قوات الاحتلال الإسرائيلي من تجاوزات فظة وانتهاكات جسيمة لأبسط قواعد القانون الدولي وحقوق الإنسان التي يتغنى بها المجتمع الدولي ومؤسساته الحقوقية، والتي ترتقي في كثير من الأحيان الى مصاف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تستوجب الملاحقة والمحاسبة.
لقد كفل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، للإنسان حقه في الحياة. أي حق الإنسان في حريته وأمنه الشخصي، ونصت المادة الأولى منه "يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء".
فيما كفلت المادة الثانية حق الإنسان بالتمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أوالدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء.
أما المواد الأخرى فلقد تضمنت حق الإنسان في الحياة والحرية وسلامة شخصه، والحق في التعلم والعمل والضمانة الاجتماعية وحرية الرأي والتعبير، بما في ذلك حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، وحمايته من الرق والاستعباد ، والتعذيب والمعاملات القاسية والاعتقال أو الاحتجاز التعسفي والنفي القسري والإبعاد.
ومنح "الاعلان" الإنسان حق التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة، وحظرت التدخل التعسفي في حياته الخاصة، أو حياة أسرته أو مسكنه أو مراسلاته أو الحملات على شرفه وسمعته.
وجاء في بعض بنوده ان كل انسان متهم بجريمة، هو بريء، إلى ان تثبت ادانته قانوناً بمحاكمة علنية وعادلة تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه. بالإضافة لكثير من الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الأخرى غير "القابلة للتجزئة" التي تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي كانت موفقة في صياغتها وانتقائها للكلمات والمضامين، ورائعة في جوهرها ومعانيها، فيما الأهم أن تحترم وتترجم لممارسة واقعية دونة تجزئة أو تمييز.
إن "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" كان المصدر الأول المباشر للمعاهدة الدولية ضد التمييز بحق النساء عام 1979، وأيضاً المعاهدة الدولية ضد التعذيب عام 1984، بالإضافة للمعاهدة الدولية لحقوق الطفل عام 1990 وإنشاء المحكمة الجنائية الدولية عام 1998.
وباختصار شديد فإن ذاك الإعلان كان المقدمة الأساسية كما قلنا في البداية لأسس عالمية جديدة في التعامل مع الإنسان واحترام انسانيته، وأن الحقوق الطبيعية الأساسية للإنسان، هي تلك الحقوق التي لا نستطيع العيش كبشر بدونها، وانها تمكننا من أن نستعمل على نحو كامل خصالنا الإنسانية، وأن نطور قدراتنا العقلية ومواهبنا وضمائرنا، وأن نفي باحتياجاتنا الروحية وغيرها.
وفي الوقت الذي تحتفي فيه الأمم المتحدة ومؤسسات حقوقية أخرى بذكرى "الاعلان العالمي لحقوق الإنسان"، فان مبادئه، التي تطرقنا إليها وتحدثنا عن جوهرها آنفاً، تداس وتُنهك أمام مرأى ومسمع من العالم أجمع، دون أن تُحرك الأمم المتحدة ساكناً، ودون تحرك جدي لحماية النصوص الجميلة والمبادئ السامية من البطش الإسرائيلي، حيث مازالت تلك المبادئ مجرد حبراً على ورق بالنسبة للشعب الفلسطيني، وما زالت حقوق الإنسان الفلسطيني، الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تنهك على مدار اللحظة وبشكل لم يسبق له مثيل من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي.
ومازالت الاعتقالات اليومية مستمرة، وعشرات السجون والمعتقلات الإسرائيلية تكتظ بآلاف المواطنين المدنيين بينهم الأطفال والشيوخ والفتيات والنساء والجرحى والمرضى والمعاقين. وبينهم أيضاً النواب المنتخبين والقيادات السياسية والكفاءات العلمية والاكاديمية. هذا في ظل تصاعد حملات الاعتقال واحتجاز مئات المواطنين ادارياً بسبب آرائهم ومعتقداتهم السياسية. فضلا عن احتجاز مئات الجثامين لشهداء فلسطينيين في ما يُعرف "بمقابر الأرقام" أو ثلاجات الموتى عقاباً لهم بعد موتهم، وعقاباً جماعياً لذويهم وحرمانهم من إكرامهم ودفنهم وفقاً للشريعة الإسلامية، في جريمة تعتبر وفقاً للقانون الدولي جريمة أخلاقية ودينية وقانونية.
تحل ذكرى "الاعلان العالمي لحقوق الإنسان" هذا العام وأسرانا واسيراتنا يتعرضون لأبشع عمليات القمع والتنكيل والحرمان ومصادرة أبسط الحقوق الإنسانية بما فيها الحق في العلاج والرعاية الطبية، وفي ظل سياسة الاهمال الطبي المتعمد والاستهتار المستمر بحياة وصحة الأسرى، ولعل الأسيرة المقدسية "اسراء الجعابيص" نموذجا بشعا للإجرام الإسرائيلي في التعامل مع الجرحى والمصابين والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة.
"إسراء الجعابيص" أم فلسطينية اعتقلت جريحة بتاريخ 11 تشرين أول/أكتوبر 2015، وتبلغ من العمر 34 عاما، وهي مقدسية من بلدة جبل المكبر جنوب القدس المحتلة، وحكم عليها بالسجن الفعلي لمدة 11 عاما بتهمة ألصقت بها، وذلك حين انفجرت اسطوانة غاز كانت تقلها بسيارتها على بعد خمسمئة متر من حاجز عسكري نتيجة إطلاق قوات الاحتلال النار على سيارتها بينما كانت عائدة من مدينة أريحا إلى مدينة القدس.
ومع الانفجار اشتعلت النيران في سيارتها والتهمت الحروق جسدها، وأصيبت بجروح من الدرجة الأولى والثانية والثالثة في 50% من جسدها، وباتت في وضع صحي يصعب وصفه، وهي بحاجة لرعاية طبية وعمليات جراحية عديدة في ظل اهمال طبي متعمد من قبل ادارة سجون الاحتلال، مما يفاقم من معاناتها ويضاعف آلامها ويزيد من وجعها ووجعنا. مما يتطلب من دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى التدخل من أجل الافراج عن "إسراء" وحماية حقوق الإنسان الفلسطيني.