مقالات
ارتقى "السنوار" لكن لم يمُت
كتب علاء أبو عامر
ابتكر العقل الفلسطيني الغزي المناضل، الذي لا يعرف الانكسار، مصطلحاً معاصراً مختلفاً عما هو ثابت في اللغة العربية الدينية والسياسية، "سقط شهيداً"، يرفض الغزيون السقوط ويقولون "ارتقى شهيداً"، الشهداء في غزّة لا يسقطون بل يرتفعون درجات، يرتقون في المنزلة والقيمة والمقام والروح والجسد، والمجد والخلود، لا أحد يوازي الشهداء في قطاع غزّة، لذلك تسمع المقاتلين الفلسطينيين يصرحون بأمنية هي الأعز على قلوبهم" أتمنّى أن أرتقي شهيداً"، عند هذه العبارة وحولها تدور حياتهم، لا شيء يُفسر إقدامهم على التضحية أكثر وأكبر من هذا الارتقاء. قال لي صديق أجنبي، لم أرَ أحداً بشجاعة الغزيين "هذا مذهل، هذا إعجاز، قد ترى أو تسمع عن حالة فردية، شخص شجاع، يُصبح عبرة/ رمزاً لدى شعبه أو جماعته، لكن هنا، لا يمكن أن تُحصي عددهم، تراهم يسيرون نحو الدبابات لإلصاق قنبلة بها، أو إطلاق صاروخ مضاد للدروع من المسافة صفر، غير أبهين بما سيحُدث لهم، يركضون وسط جنود العدو وآلياته، يُفجرون أجسادهم، أنا لم أسمع بمثل هذا من قبل، ترى مما خلقوا؟ وما الذي يجعلُهم يفعلون كل ذلك؟".
ارتقى يحيى السنوار شهيداً وهو يقاتل، لم يكن مختبئاً وسط أسرى العدو، ولا جالساً في نفق، ولا مختبئاً وسط خيام النازحين، مستخدماً إيّاهم دروعاً بشريةً، كما أشاع العدو وحلفاؤه وأعوانه من العرب، بل ومن بعض الفلسطينيين. بل كان مقاتلاً متنقلاً، من موقع إلى آخر، بلباسه العسكري، وجعبته القتالية، وسلاحه وأمشاط رصاصه، فدائياً كما عاش دوماً، وكما أراد لحياته أن تكون منذ كان فتى، طالبه بعضهم بالاستسلام لإيقاف الحرب، وطالبه الصهاينة بالخروج إلى المنفى، مقابل عدم ملاحقته وقتله، لكنه ظلّ غير آبه بكل هذه الحرب النفسية، التي مورست عليه، وعلى رفاقه من قيادات المقاومة في قطاع غزّة. يتخيل كاتب المقال أنه كان يسمع الشتيمة والدعاء عليه من قِبل بعض ضعاف النفوس، ومن بعض الجهلة والمساكين، الذين يتأثرون بدعاية الإبراهيميين من عرب الصهاينة، القائلين بأنّه "السبب في كلّ ما يحدث، فلولا طوفانه، كما يقول عملاء العدو وطابورهم الخامس، ما وجد العدو ذريعةً للقتل والتدمير!".
أيّ ألم مرَّ به واجتاحه وهو يجازف بكلّ شيء من أجل وطنه، ويسمع كل هذا الكذب والظلم والجور في تبني سردية العدو وتبرير أفعاله؟ لكنه، في الوقت نفسه، كان يشعُر بفرحة لا توازيها فرحة وهو يسمع زغاريد النساء، وفرح الأطفال، وضحكة عيون الكبار عندما يهللون لرجاله وهم يدمرون الدبابات، ويقتلون جنود العدو داخل فتحات الأنفاق، بكل تأكيد امتزجت سنة من عمره النضالي بمشاعر مختلفة، لكن التصميم هو التصميم، على النصر والتحرير، والتمسك بالشعار الخالد "إنه لجهاد، نصرٌ أو استشهاد".
بات الرجل أسطورة، كما سيظل، حتى بعد استشهاده، كابوساً للصهاينة، فقد أصبح السنوار رمزاً لشعبه، ونموذجاً لأجيال الفدائيين، راهناً وفي المستقبل.
اجتاحت مشاعر حزن وفرح مختلطة أبا إبراهيم طيلة عام كامل، كان الرجل فيها يبيت كما يبيت الشعب، يتنقل مثلهم، يسير معهم، وربّما بجوارهم، يعاني مثلهم، يأكل مثلهم، يعطش مثلهم، بل ربما أكثر منهم، فهو لا يفكر كيف ينجو، بل كيف يقاتل وينتصر.
عاجلته المعركة الأخيرة في تل السلطان ولن يرى النصر الذي حلم به، لن يعود إلى المجدل "عسقلان" محمولاً على الأكتاف، أو راكباً حصاناً أبيض كالفاتحين الذين تخيّلهم وهو يقرأ كتب التاريخ عن خالد بن الوليد، وصلاح الدين الأيوبي، وأبي عبيدة عامر بن الجراح، وغيرهم. لكن المؤكد أنّ شعبه سينقل جثمانه يوماً إلى المجدل المحررة من رجس الاحتلال، بكل تأكيد كان قد رأى هذا اليوم قريباً، ولعله قريب.
ارتقى السنوار "لا حاجة للأوهام، المشكلة الفلسطينية قائمة وحية، تمكن السنوار من رفعها إلى آفاق جديدة، هذا الإنجاز لن يختفي، الحملة المناهضة لإسرائيل لن تتوقف لحظة، بالنسبة لشعبه وللعرب والمسلمين، السنوار هو تشي غيفارا، لن يكون مفاجئاً إذا ظهرت في المساء أو غداً قمصان تحمل صورته". هذه العبارات للكاتب الصهيوني في صحيفة يديعوت أحرونوت، بن درور يميني.
عبارات الكاتب الصهيوني أعلاه تختصر المسألة والصورة كلّها، استشهد السنوار، كما أراد، نهايةً تليق ببطل، بفدائي لا يعرف اليأس، ولا يخضع ولا ينكسر، هكذا وصفه محققو العدو، ورفاقه، وأبناء حارته ومدينة لجوئه خانيونس، وزملاؤه في الجامعة.
أما بخصوص السؤال الذي يطرح اليوم، ماذا بعد السنوار؟ فنجد إجابته في اليوم الذي سبق استشهاد السنوار، فهذا نضال شعب لا أفراد، حتماً سيتحول السنوار إلى أيقونة، بل أراه قد تحول منذ الآن، نحن أمام غيفارا فلسطيني عربي مسلم، ستصبح حياته واستشهاده مصدر إلهام للأجيال الفلسطينية والعربية القادمة، إذ دوّنَ الرجل اسمه في التاريخ كأول عربي يذل الصهاينة ودولتهم، كما لم تُذل يوماً، هذا قولهم، قول العدو قبل الصديق، وزعزع أساس كيانهم. فما كان قبل الطوفان ليس كما بعده، هذه مرحلة ستؤسس لمرحلة نهاية المستعمرة الأنجلو سكسونية في بلاد العرب والمسلمين.
لقد بات الرجل أسطورة، كما سيظل، حتى بعد استشهاده، كابوساً للصهاينة، فقد أصبح السنوار رمزاً لشعبه، ونموذجاً لأجيال الفدائيين، راهناً وفي المستقبل، كذلك من الصعب إيجاد شخصية بديلة له، قائدة للحركة، فأمثاله قليلون، هناك فرادة فيه، هو رجل أمن وفدائي وأسير سابق، وكاريزما قوية، وشجاع إلى أقصى درجات الشجاعة، يمقت الخيانة والخونة، ويطارد العملاء، متقشف في حياته، ابن المخيم الذي لم يتجاوز بيئته ومعنى الانتماء له، حلمه كان فلسطين كلّ فلسطين غير منقوصة. وعليه من بين من تبقى القيادات مثله؟ لا أتخيل أحداً، قد يقال، ليست مسألة أشخاص، لكن دور الفرد مهم خصوصاً في تاريخنا، بل وفي تاريخ حركات التحرر عامةً.
روّج كثيرون لأكاذيب مفادها أن استسلامه، أو موته، سيؤدي إلى نهاية الحرب، وإنقاذ الغزيين، ها قد استشهد والعدو لم يُنهِ الحرب، العدو أُهين وأُذل، لكن ما قام به السنوار ورفاقه بهجوم السابع من أكتوبر كان عملية دفاعية واستباقية، فهذه الحرب كانت قادمة لا محالة، تدرب عليها الأميركان والصهاينة في الكيان لسنوات، وأجروا المناورات للحرب على جبهتين في الشمال، أي لبنان، وقطاع غزّة، آخرها كان في شهر مارس/ آذار 2023 أي قبل سبعة أشهر من هجوم أكتوبر القسامي فقط، كانت شرارة الحرب أو الطوفان ستبدأ بالأقصى كما كلّ مرة، لكنها، بدأت من قرى قضاء غزة (الغلاف)، والسيطرة على القواعد العسكرية فيه، معجزة هزت العالم، وها هي تمتد للمنطقة كلّها، وتخلق معادلات جديدة، ستغير المنطقة، لكن من سيشكلها هذه المرة هم أهلها، وليس الدول الاستعمارية وصنيعتها الصهيونية قبل مائة عام، السابع من أكتوبر، أو أكتوبر السنوار، حيث ولد وصنع طوفانه واستشهد، هو بداية الفتح، بداية التحرر الحقيقي، في أول حرب دامية ومؤلمة تبث فيها الإبادة الجماعية مباشرة إلى العالم، حيث عُرّي الغرب وأنظمة العرب، وظهرت البطولة والفداء والثبات الفلسطيني على الأرض.
قُتل السنوار، بحسب الرواية الصهيونية ذاتها، وهو يُقاتل لابساً جعبته، وحاملاً سلاحه في معركة بطولية، لم يهزمه أحد، أطلقت عليه النار دبابة معادية عن بعد، استشهد أبو إبراهيم مقاتلاً في المعركة، نال شرفاً وعزةً وفخراً نادراً، قلائل من وصلوا إليه في الحالة الفلسطينية من قيادات الصف الأول، أتذكر هنا الشهيد القائد عبد القادر الحسيني، والشهيد القائد كمال عدوان، والشهيد القائد خليل الوزير، والشهيد القائد أبو علي إياد، وربما هناك غيرهم من القادة الذين استشهدوا في معركة، وخلّدوا في الذاكرة الفلسطينية، لكن السنوار سيتجاوزهم جميعاً إلى العالمية.