مقالات
أبا معالي.. رجل من الزمن الجميل
الكاتب : عبد الناصر فروانة
كلما جالستهم؛ تزداد فخراً بهم، وإن تكلموا أمامك، أنصت لهم ولا تقاطعهم، فربما مقاطعتك لحديثهم يُفقدك شيئاً مخزوناً في ذاكرتهم قد لا تسمعه من أحد بعدهم. فهم الشاهد على العصر، بل هم أبطال ذاك العصر، وهم صُناع ذاك التاريخ الثوري الجميل الذي لطالما تغنينا به ومازلنا نفخر به. إنهم أبطال سنوات النار ومحرري صفقة تبادل الأسرى عام1985.
ولعلني كنت محظوظاً بأنني التقيت في صغري الكثير منهم على شبك الزيارة حين كنت أذهب إلى السجون لزيارة والدي -رحمة الله عليه- الذي رافقهم النضال وشاركهم قسوة السجان وتحرر معهم ضمن صفقة التبادل الشهيرة. ومع مرور السنوات الطويلة نشأت بيني وبينهم علاقات صداقة، حتى تحرروا وأنا كبرت وتحولت بدوري إلى مناضل وأسير لعدة مرات، فخضنا النضال معاً وتقاسمنا سوياً ألم السجن، فاستفدنا من تجاربهم وخبراتهم النضالية. هكذا هي حياة الفلسطيني في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
إن ما دفعني لهذه المقدمة هو الإحساس دوماً بأن هؤلاء الأبطال لم ينالوا حقهم، وأحياناً الشعور بالقصور تجاههم، فتجدني أحرص على متابعة أخبارهم والتواصل مع غالبيتهم، أو زيارة والتقاء بعضهم كلما سنحت الفرصة. فهم مفخرة للكل الفلسطيني. وهذا واحد من هؤلاء الأبطال، الذين التقيت بهم كثيراً واستمعت إليه مطولاً، فيما زرته مؤخراً، في بيته بدير البلح وسط قطاع غزة ، للاطمئنان على صحته التي تدهورت أثر وعكة صحية ألمت به، فأعاقت حركته بشكل كبير وأفقدته القدرة على الكلام، ولم يعد بمقدور "أبا معالي" أن يروي أمامنا حكايات الزمن الثوري الجميل، أو يسرد لنا قصص السجون وتفاصيلها مع رفاق "البرش". لكن علامات السعادة وتعبيرات الإعجاب كانت تبدو واضحة على وجهه كلما استحضرنا سيرة المقاومة وذكرنا أحد رفاقه القدامى. فيما المؤلم أنه لم يعد باستطاعتنا انتزاع المزيد من المعلومات وتوثق ما كانت تختزنه ذاكرته من أحداث وذكريات سبقت الاعتقال وامتدت لأكثر من خمسة عشر عاماً قضاها خلف القضبان وبين جدران سجن غزة وعسقلان والرملة وبئر السبع.
ولد المناضل محمد معالي أبو سمرة، وكنيته "أبو معالي" في الواحد والثلاثين من آيار/مايو عام 1948، بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، وتربى وترعرع في شوارعها وبين أزقتها وما زال يقيم فيها مع أسرته وأهله ووسط عائلته الكبيرة المشهود لها بالعطاء والنضال.
والتحق "أبا معالي" في صفوف الثورة الفلسطينية منتصف ستينيات القرن الماضي وانخرط في أنشطتها الكفاحية وتميز بالجرأة والشجاعة والإقدام في تنفيذ مهامه النضالية ومقاومته للمُحتل الإسرائيلي.
وبعد نكسة عام 67، انضم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وانخرط أكثر في العمل الفدائي المُقاوم وشارك بتنفيذ عمليات نوعية أوجعت المحتل، بشهادة رفاقه، وعلى إثر اكتشاف أمره من قوات الاحتلال تمت مطاردته ومن ثم محاصرته والاشتباك معه واعتقاله مطلع عام 1970، ليتعرض لصنوف مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي، ولتصدر بحقه إحدى محاكم الاحتلال العسكرية حكماً بالسجن المؤبد ثلاث مرات. بالإضافة إلى28 عاماً. لكن شاءت الأقدار وقالت المقاومة كلمتها، ليتحرر ضمن صفقة تبادل الأسرى في العشرين من آيار/مايو عام1985 بعد قضاء أكثر من خمسة عشر عاماً على التوالي خلف الشمس، ليخرج متسلحاً بمعنويات عالية وإرادة قوية ويعود مجدداً لعمله النضالي وخدمة قضايا شعبه.
وقد تزوج بعد تحرره من الأسر من السيدة الفاضلة "سلوى أبو سمرة"، وأنجب منها ستة أبناء؛ أربعة ذكور وهم: معالي وماهر ونضال وعبد الناصر. بالإضافة إلى أنثتين هن: حيفا وتغريد.
ومع قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية عمل في جهاز المخابرات العامة، ولم يبخل عن العطاء مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام2000، وكان قريب وأحيانا شريك للشباب المنتفض، حتى أطلقوا عليه لقب "شيخ الشباب".
أبا معالي.. مناضل يعرفه الجميع ويحبه الكل الفلسطيني على اختلاف انتماءاتهم، وهو من شارك في الإضراب عن الطعام في ساحة الجندي المجهول الذي نُفذ من قبل عشرات الأسرى المحررين عام1998 دعماً وإسناداً للأسرى.
وكان "أبا معالي" من مؤسسي أول لجنة شعبية للاجئين بمخيم دير البلح، وأحد أشد المدافعين عن حقوق اللاجئين وقائدًا مجتمعيًا تميز بعلاقاته الواسعة وفي المبادرة للإصلاح المجتمعي، منطلقاً من قناعته بوحدة شعبنا، فكان على الدوام وحدوياً وحين تم تشكيل لجنة القوى الوطنية والإسلامية في دير البلح كان منسقاً لها، ثم أصبح منسقا للجنة القوى الوطنية والإسلامية بالمحافظة الوسطى.
جسد "أبا معالي" خلال سنوات الاعتقال الطويلة وفي ميادين البطولة والمقاومة والاشتباك، محطات تُحتذى، وكان إنساناً متواضعاً ووحدوياً، ومقاوماً صلباً وعنيداً، ومناضلاً معطاءً ودائم الالتحام بالجماهير.
في الختام، لا يسعني إلا أن أدعو الله عز وجل أن يُشفي أخونا ورفيقنا وحبيبنا أبا معالي. وهي فرصة لأن أدعو كل المعنيين بضرورة العمل من اجل توثيق سير هؤلاء المناضلين الذين حفروا أسمائهم عميقاً في سجل المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية الأسيرة، فشكلوا بتاريخهم مفخرة للكل الفلسطيني ولكافة أحرار العالم.