مقالات
هل تأخّرت إسرائيل في حسم الصراع؟
ما أظنّه هو أن إسرائيل قد تأخّرت في حسم الصراع لمدة لا تقلّ عن ثلاثة عقود، إن لم يكن أكثر.
وما أظنّه أن الاستراتيجية الإسرائيلية الراهنة، والتي يعتمدها التحالف العنصري الجديد ليست "الخيار الناضج"، أو الخيار الذي "نضج أخيراً!"، وإنما هو الخيار الذي تبقّى لها بعد فوات الأوان.
تبدو هذه الفكرة وكأنها تحمل الكثير من "التناقض" المنطقي مع طبيعة المشروع الصهيوني كما عرفناه، وكما عهدناه، ومع سياقات تطور هذا المشروع نفسه، ومع الكثير من معطيات الواقع المحيط بظروف الصراع مع الشعب الفلسطيني، وما وصلته الحالة الوطنية من تردٍّ وهشاشة وضعف!
ويعود تأخّر الحسم الاستراتيجي للصراع لأسباب لم يعد بإمكان المشروع الصهيوني الاستعاضة عنها، ولا تغييرها ولا استبدالها، ولا حتى القدرة على إخضاعها أو السيطرة عليها.
أقصد أن الفشل الاستراتيجي الذي انطوى عليه المشروع منذ نشأته، وفي "تطوّره"، وفيما انتهى إليه، كان وما زال المسبّب الموضوعي الذي أدى بهذا المشروع إلى تأخّر حسم الصراع، والذهاب [الآن] إلى خيار "الحسم" من موقع الفشل وليس من موقع النجاح.
إليكم بعض مَواطِن الخلل الاستراتيجي في هذا السياق:
حاول المشروع الصهيوني منذ بداياته الأولى أن يحيك "روايته" على أساس "حقوق إلهيّة" دون أن يقدّر استحالة "صمود" رواية كهذه في ظروف لاحقة.
بل ويمكن القول هنا إن "صمود" هذه الرواية لم يكن سهلاً إلّا من خلال انخراط هذا المشروع في المنظومات الغربية الاستعمارية، وإلّا من خلال تحوّله إلى مصلحة غربية حيوية، وإلى مكوّن عضوي من هذه المنظومات، وكان هذا الانخراط بالذات هو بمثابة مَقتل آخر من مَقاتل هذا المشروع بعد "مَقتل" الأحقيّة "التاريخية" المؤسسة على الحقوق "الإلهيّة"، لأن التحوّل إلى حالة استعمارية هو مقدمة للموت.
اكتسب المشروع الصهيوني زخماً استثنائياً جرّاء التقديرات الغربية حول الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، والأهمية الخاصة لفلسطين في إمكانية فصل شرقها عن وسطها وشمالها، وخصوصاً فصل بلاد الشام عن مصر، وجرّاء محورية المنطقة في خطوط التجارة العالمية عَبر الممرّات الاستراتيجية فيها، وجرّاء الأهمية الاستراتيجية الخاصة للمكتشفات النفطية المبكرة فيها، وهو ما أدى في النهاية إلى تكالب الغرب كلّه، والتسابق بين أقطابه لدعم وإسناد هذا المشروع "الواعد" في تحقيق المصالح الغربية، وفي السيطرة على هذه المنطقة، وخصوصاً بعد المذابح الهتلرية لليهود في أوروبا.
لو وافق الغرب آنذاك على "حسم الصراع" لما قُدِّر لإسرائيل ربما أن تبقى، ولما أمكن "ضمان" نجاح المشروع كلّه.
الغرب خشي على المشروع نفسه، ولم يكن بحاجة إلى تحويله من مشروع لتثبيت دعائم دولة يهودية، أو دولة لليهود إلى مشروع "جذري" ونهائي محسوم بالكامل لصالح المشروع الصهيوني في منطقة قلقة ومتفجّرة.
أغلب الظنّ هنا أن "تكتيك" الموافقة على قرار التقسيم، ثم "الإبقاء" على حوالى 150 ألف مواطن فلسطيني، قد جاء في هذا السياق، إضافةً إلى أسباب موضوعية وذاتية أخرى أدّت إلى عدم حسم الصراع في حينه.
لم تتوقف محاولات حسم الصراع منذ ذلك الوقت، وكانت [إدارة] الصراع طوال هذه الفترة التاريخية الطويلة هي مرحلة انتقالية من أجل حسمه في الظروف "المناسبة".
هذه هي العلاقة التي ربطت في سياق "تطوّر" المشروع الصهيوني بين إدارة الصراع وبين حسمه، وهي علاقة إدارته إلى حين توفّر الإمكانية من أجل حسمه.
صحيح أن حسم الصراع واجه عقبات كبيرة بفعل تمسّك الشعب الفلسطيني بأرضه وهويته وبحقوقه بصورة بطولية، ولكن الصحيح، أيضاً، أن العقبات التي واجهت الشعب في تصدّيه للمشروع الصهيوني كانت كبيرة، وعلى أخطر درجات الإعاقة، ما بدا وكأنّ حسم الصراع في مراحل معينة بات ممكناً، وفي متناول اليد.
تولّد لدى القائمين على المشروع الصهيوني أن للرواية الصهيونية ما يُسندها لدى ثقافة معينة من العهد الجديد، وتوّهم هؤلاء أن القوة كفيلة بدعم وإسناد هذه الرواية، وتوهّموا، أيضاً، أن حاجة الغرب للمشروع الصهيوني ستؤدي إلى حسم الصراع في نهاية الأمر، وتوهّموا أن حال العرب لن يصل إلى حدود التصدي لهم، وأن الغرب سيساعدهم إلى "التخلّص" من كلّ من سيعمل على هذا التصدي، وتوهّموا قبل كل شيء أن شعباً صغيراً لا يمكن أن يُقاوم مشروعاً بهذه القوة وهذه الضخامة، وهذا القدر من الجبروت والدعم والإسناد من قبل أباطرة المال والسلاح والدول الأقوى في العالم.
لم يحسموا أمرهم في حينه، ولم يرد الجناح "العمّالي" الأشكنازي في حينه أن "يُعرّض" المشروع لأخطار أو مغامرات غير محسوبة بالكامل، ولم يلمس ذلك الجناح في حينه رغبة من الغرب بحسم الصراع، كما أن مقاومة الشعب الفلسطيني أرعبتهم من الإقدام على الحسم.
وهكذا، بقي الأصل، أو من تبقّى منهم في الداخل شوكة في حلق المشروع، وبقيت الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، ولم تتمكن إسرائيل من جلب 14 مليون يهودي، وحتى احتلال الضفة والقطاع لم يحسم الصراع، إن لم نقل إن هذا الاحتلال تحوّل إلى السبب الرئيس لعدم قدرة المشروع الصهيوني على حسم هذا المشروع.
عندما نشأ المشروع الصهيوني كانت كل الظروف مهيأة لنشأته، وكانت الظروف ربما تساعد على حسم الصراع، وعندما تمت إدارة الصراع تمهيداً وانتظاراً لحسمه في مراحل لاحقة كانت الظروف كلّها مهيّأة "لحسن إدارة هذا الصراع"، وعندما فاز "اليمين الفاشي" في الانتخابات الأخيرة، عادت الأوهام التي تراكمت على مدى سنين طويلة، وتراكمت معها تحولات خطيرة في بنية الدولة والمجتمع الإسرائيلي بأن ثمة فرصة تاريخية مواتية لحسم هذا الصراع، خصوصاً وأن "الوعي" الإسرائيلي حول "إسرائيل الكبرى" أصبح ثقافة مسيطرة، وتحوّلت إمكانية الانتقال من إدارة الصراع إلى حسمه في ثقافة هذا المجتمع إلى إمكانية "واقعية" كما يتوهّمون.
لم يعد هناك أيّ إمكانية لحسم الصراع، لأن المعطيات والوقائع التي تحيط بهذا الحسم تتحوّل كل يوم إلى عقبات أمام هذا الحسم، بل وإلى موانع في القدرة على إدارته.
فلا الوضع الدولي على كلّ علّاته سيسمح لإسرائيل بالتمادي إلى حدود حسم الصراع، ولا حتى الوضع العربي الرسمي والإقليمي بإمكانه أن يتقبّل هذا الأمر.
ومهما كانت الحالة الوطنية الفلسطينية على درجةٍ من ضعفها وهشاشتها فإنها لن تسمح بالمطلق بمثل هذا الحسم حتى لو انقلبت الدنيا كلها.
حسم الصراع بات يحتاج من المشروع الصهيوني صدامات مباشرة مع اليهود الذين يعرفون أن حسمه سيحتاج إلى تحوّل الدولة في إسرائيل إلى دولة داعشية دينية متطرفة، وإلى الانتقال من ديمقراطية إثنية عنصرية إلى فاشية سافرة، أما شعوب الأرض وقواها الحيّة، وفي المقدّمة منها الشعوب العربية فإنها ستقف بالمرصاد وستبني أكبر تحالفٍ عالمي لإسقاط هذا المشروع وخلعه من جذوره.
تأخّرت إسرائيل في حسم الصراع، تأخّرت كثيراً.