مقالات
هل سيختار الغرب في أوكرانيا الخسارة أم الهزيمة؟
الكاتب : عبد المجيد سويلم
وحتى لو أن الغرب اعتقد بأن الخسارة أفضل من الهزيمة، وهو اعتقاد صحيح، إلّا أن اختيار الخسارة ليس سهلاً على الإطلاق، ليس فقط لأن الخسارة هي بطعم الهزيمة على كل حال، وإنما لأن بقاء الخسارة في دائرة الفشل فقط يحتاج إلى قرارات «شجاعة» لا يمتلكها قادة أوروبا حتى الآن.
كما يحتاج الأمر إلى الحكمة التي يفتقر لها معظم قادة أوروبا كما دلّت التجربة حتى الآن.
المؤشرات إلى النقص الشديد في «الشجاعة والحكمة» تبدو أوضح من أيّ وقتٍ مضى في هذه الأيام بالذات.
تعالوا ندقّق معاً ماذا يقول الغرب هذه الأيام!
عطفاً على ما تقوله القيادة الأوكرانية عن سير المعارك، والتي مفادها أن الأوضاع [صعبة ومعقّدة]، وهنا لا يخفى على أحد أن ذلك يعني بالمفاهيم العسكرية الكثير من التصدّع في الدفاعات الأوكرانية، وقد يعني، أيضاً، انهيارات كبيرة في هذه الدفاعات.. عطفاً على ذلك ماذا يقول الغرب.
دققوا معي ماذا يقول الغرب! القوات الروسية على وشك شن هجوم كبير على كل محاور القتال، ويقول، أيضاً: القوات الروسية تحشد أكثر من ربع مليون جندي لشن هذا الهجوم، ويتابع الغرب: قد لا يقتصر الهجوم الروسي على المحاور «التقليدية»، ويمكن أن تدخل على الحرب جبهة أو جبهات جديدة، وخصوصاً من جهة بيلاروسيا، وقد تقوم القوات الروسية بحركة التفافية استراتيجية كبيرة على العاصمة كييف، وقد تتم محاصرتها.
إضافة إلى ذلك توحي بعض الأوساط الغربية بأن أحد احتمالات أن يكون الهدف أو الأهداف من هذا الهجوم هو قطع طرق إمداد أوكرانيا بالأسلحة الثقيلة، التي من شأنها «صدّ» الهجوم الروسي، والعمل على إبقاء خطوط الإمداد في مرمى القوات العاملة على المحاور القتالية من الجانب الروسي.
ثم ماذا يقول الغرب:
القوات الأوكرانية تستهلك من العتاد والذخائر ما يفوق قدرة الصناعات العسكرية الأوروبية، وربما كامل بلدان «الناتو» من إنتاجه!
و»استنتج» الغرب في ضوء ذلك كلّه أن «المهمّة» الآن هي استمرار الدعم العسكري لأوكرانيا لكي ــ لاحظوا هنا ــ [تتمكّن أوكرانيا من التحضير لهجوم مضادّ كبير في شهر نيسان، أو في الربيع القادم].
وأخيراً يقول الغرب: الأفضل على كلّ حال أن تبدأ أوكرانيا نفسها بتصنيع كل الأسلحة التي تحتاجها بنفسها، لأن الاعتماد على الإمداد الغربي أمرٌ يفوق الطاقة الإنتاجية، ومحفوف بمخاطر تدمير خطوط الإمداد؟!
ماذا يعني كلّ ذلك؟
هذا يعني الكثير الكثير من خفايا التخطيط الغربي لهذه الحرب.
فهم الغرب أن بضع عشرات أو حتى بضع مئات من الدبّابات لن تغيّر في الواقع الميداني شيئاً، خصوصاً وأن كل أوروبا لا تملك أكثر من ثلث ما تملكه القوات الروسية من الدبّابات، وأن «التفوُّق» النوعي للدبّابات الغربية ليس أمراً محسوماً، إضافةً إلى أن روسيا لم تُفصح كثيراً عن الدبّابات الحديثة التي أنتجتها في العامين الماضيين، والتي يمكن أن تكون على أبواب الدخول في الخدمة، هذا إذا لم تكن قد دخلت بالفعل.
وبالتالي، يعتقد الغرب [وهو على حقٍ هنا] بأنّ الدبّابات لن تمنع الهجوم الروسي الوشيك ــ على حدّ تعبيرهم ــ ولن توقف تقدم القوات الروسية في محاور القتال التقليدية المعروفة، ناهيكم عن المحاور التي يمكن أن تستحدثها القوات الروسية.
أي أنّ على القوات الأوكرانية أن «تتحمّل» المنسوب الحالي من القتال، وأن «تصمد» بقدر ما تستطيع، وأن تُخلي مواقعها تباعاً، وأن لا تتمسّك بالخطوط الدفاعية، وأن تحاول بناء خطوطٍ جديدة بهدف «صدّ» الهجوم الجديد؟!
ويعتقد الغرب أن «صمود» القوات الأوكرانية و»صدّ» الهجوم الروسي الوشيك هو الحلّ الوحيد الممكن من هنا وحتى أواخر شهر نيسان. أي بدلاً من أن ينجح الرئيس الأوكراني بتوريط الغرب أكثر فأكثر في هذه الحرب على طريقة [من بعدي ليأتي الطوفان] يقوم الغرب بتوريط أوكرانيا أكثر فأكثر ليضعها على حافّة الانهيار التام، أو الانتحار لكي «تعتمد» على صناعاتها العسكرية فيما بعد، ولكي «تقرّر»هي بنفسها حدود الرد على الهجمات الروسية.
أيّ أن الغرب الغارق حتى أُذنيه في حرب الوكالة في أوكرانيا لا يريد أن يعطي لروسيا أيّ مبرّرات لتطوّر الحرب إلى ما هو أخطر من واقع الحرب القائمة، ولا يريد أن تصل الأمور بروسيا إلى استخدام أسلحة تدميرية شاملة ضد أوروبا، ولكنه ــ أي الغرب ــ لا يريد أن يذهب إلى طاولة المفاوضات حتى ولو خسرت أوكرانيا أكثر من رُبع الأراضي التي كانت تتبع لها قبل هذه الحرب.
أي أن الغرب لن يوقف الحرب، ولن يُفاوض، ويُريد من أوكرانيا أن تستمر بالحرب، وأن تتحمل هي «مسؤولية» قراراتها «العسكرية»، بحيث يبقى الردّ الروسي «محصوراً» في أوكرانيا.
أي أن الغرب ليس لديه أي مشكلة في الواقع أن يتم احتراق أوكرانيا، وتدمير الجزء الأكبر منها، و»ضياع» أكثر من ربع «أرضها» على أن يجلس هذا الغرب لإيجاد حلٍّ تكون نتيجته تكريس الانتصار الروسي، أو تحقيق أهداف عملياتها العسكرية في أوكرانيا.
والغرب يهدف من وراء ذلك كلّه إلى أن تستمر الحرب بكلّ الأشكال الممكنة، وأن يستمرّ «استنزاف» روسيا، وأن تظلّ روسيا في وضع من عسكرة اقتصادها، ومنع الاقتصاد الروسي من «الإفلات»، وإبقائه تحت العقوبات المشدّدة، أملاً في أن يؤدّي كل ذلك على المدى المتوسّط والبعيد إلى انهيار الدولة الروسية، وهو ما يُطلق عليه الغرب [إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا].
لكن ما يغيب عن ذهن الغرب أكثر بكثير مما يخطر بباله هو أنّ حرب الاستنزاف ليست واردة، لأن الاقتصاد الروسي تكيّف مع كل أنواع العقوبات، والحرب التجارية فشلت لأن العلاقات الروسية مع دول العالم تسير بصورة اعتيادية، وتسير بشكل خاص مع الدول التي تعوضها إلى درجةٍ كبير عن العلاقة مع أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وهي آخذة في بناء شراكات استراتيجية ضخمة مع الصين والهند والدول الصاعدة في العالم، وهي قادرة وكما أثبتت حتى الآن على بناء شراكات جديدة في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط، وهي على أعلى درجات الاستقرار السياسي بالمقارنة مع مثل هذا الاستقرار في البلدان الغربية، وهي تتربّع على عرش القوة النووية الأولى في العالم، وهي تصمد في مواجهة كامل قوة «حلف الناتو»، وأسلحته واستخباراته ومعدّاته من دون أن تستخدم حتى الآن إلّا جزءاً يسيراً من ترسانتها العسكرية التقليدية.
وما يغيب عن ذهن الغرب أن روسيا تدرك ومنذ اليوم الأوّل لهذه العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أنها ــ أي العملية العسكرية ــ يمكن أن تتطوّر إلى ما قد وصلت إليه، وأنها يمكن أن تتطوّر إلى ما هو أبعد من ذلك، وأنها ــ أي روسيا ــ قد أعدّت نفسها لذلك بكل تأكيد.
لن تسمح روسيا بهذه اللعبة الغربية، ولن يُغيّر «الخداع» الغربي شيئاً في معادلة الخسارة والهزيمة.
المؤلم أن الغرب بطبقاته الثلاث: الأنجلوساكسوني، والأوروبي الغربي العنصري والأرعن، وبقية أوروبا وبعض الهوامش الغلبانة هنا وهناك يدمّرون أوكرانيا ويضحّون بالشعب الأوكراني المغلوب على أمره والمغدور من قبل هذا الغرب اللعين.
الثلث الأول من الشعب الأوكراني من اللاجئين، وثلثه الثاني لن يقبل سوى العيش في الكنف الروسي، وثلثه الأخير، عليه أن يموت ويُضحّي لكيّ يبقى الغرب غرباً، ويبقى مُسيطراً ومُهيمناً على العالم، بما في ذلك أوكرانيا نفسها، أو ما سيتبقّى منها، ومن شعبها المكلوم.